مصطفى إنشاصي
توالت الأحداث وتعددت الآراء والنظريات والفلسفات اللادينية وخاصة في القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من أن نظرية دارون أجهزت على النصرانية الرسمية –الكنيسة- وأفسحت الطريق لإبعاد الدين –الكنيسة- بصفة نهائية من التأثير في حياة الغربيين ومهدت لرفضه رفضاً باتاً حتى في صورته الوجدانية المجردة، إلا أنها لم تعيد أوروبا إلى العلمانية اللادينية الإغريقية-الرومانية. ولكنها بالاشتراك مع نظرية ميكافيللي في السياسة التي عبر عنها في كتابه (الأمير) أصبحت العلمانية اللادينية هي النظام المسيطر في الغرب كله. فقد كان (نيقولا مكيافيللي) الذي أطلق عليه لقب "أول المحدثين"، أول من تبنى دعوة علمانية ذاتية في العصور الوسطى، ودعا بصراحة إلى استبعاد الدين وعزله عن جانب مهم من جوانب الحياة وهو السياسة.
مصطفى إنشاصي
قبل الحديث عن موضوع هذه الحلقة سأحاول تقويم المرحلة السابقة من تاريخ أوروبا الذي عرضنا له في الحلقات الماضية، وخاصة مرحلة حكم الكنيسة باسم الدين والدين منها براء في نقاط مختصرة:
1ـ أن النصرانية بعد انتقالها للغرب وبالذات عاصمة العلم في ذلك الوقت –روما- تم تجريدها من روحها وجوهرها الإلهي السماوي واختلطت بكثير من العقائد الوثنية والفلسفات والأفكار والأهواء البشرية.
2ـ النصرانية لا يوجد فيها تشريعات سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وعلاقات دولية...إلخ يمكن أن تكون نظام حياة وحكم ودستور دولة، وكل ما في كتبها روايات تتناقض في بعضها لحياة وسيرة السيد المسيح عليه السلام منذ ولادته إلى أن توفاه الله تعالى ورفعه إليه.
إقرأ المزيد: النهضة العلمية والفكرية في أوروبا (الحلقة الخامسة)
محمد يوسف عدس
أذكر أنني زرت تونس في ثمانينات القرن الماضي بدعوة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لحضور مؤتمر انعقد في مقر الجامعة.. وقد احتجت لشراء بعض أشياء فسألت أحد الزملاء التونسيين عن أقرب "محلّ" يمكن أن أذهب إليه فقال: نذهب إلى "المغازي".. ولم أفهم .. فقال: أنتم تسمونها "سوبر ماركت" وهى كلمة أمريكية ونحن أخذناها من كلمة Magazine الفرنسية.. قلت له مُمَازِحًا: يعنى كلانا مصاب بالغزو الثقافي.. ولكني أعلم أن كلمة مجازان عربية في أصلها.. ونطقها الصحيح هو "مخازن".. وقد أخذها الإنجليز في استخدام آخر فأطلقوها على المجلّة”Magazine” وقصدوا بها مخزن المعرفة و المعلومات.. ولكننا نحن العرب تحت تأثير الانبهار بلغات الغرب ومنتجاته الفكرية نقلّدهم ولا نتوقف لفحص أصول هذه الأشياء فكثير منها لها أصل عربي إسلاميّ .. ولو قُدِّمت إلينا بصيغتها الأصلية لاحتقرها البعض منا واعترض عليها واعتبرها رجعية و"ماضويـّة".. ولكنها تصبح جميلة وذات قيمة إذا نطقتْها (محرّفةً) ألسنةٌ أجنبية..
الديانة النصرانية ديانة بشرية وثنية أخرجتها الكنيسة عن أصلها السماوي
مصطفى إنشاصي
عرفت أوروبا الوثنية الدين النصراني منذ القرن الأول للميلاد بوصفه عقيدة شرقية سامية كتلك العقائد التي ينظر إليها العالم الروماني الأبيقوري على أنها تعاليم مثالية صارمة، ولم يأل أباطرة الرومان جهداً في القضاء عليها واستخدموا لتحقيق ذلك صنوف الاضطهاد والتنكيل طيلة القرون الميلادية الثلاثة الأولى إلا أنهم فشلوا في ذلك، وأصبح الدين الجديد يهدد وحدة أكبر إمبراطورية في ذلك الوقت حيث انقسم أتباعها إلى قسمين؛ قسم اعتنق الدين الجديد وأصبح يشكل الجزء الأكبر من رعايا الإمبراطورية الرومانية، والقسم الآخر بقي على عقيدته الوثنية التي كانت قبل بعثة السيد المسيح عليه السلام! لذلك عندما شعر الإمبراطور (قسطنطين) بقوة الاعتقاد النصراني لدى أتباع نصارى إمبراطوريته من الشعوب المختلفة خشي على إمبراطوريته من التفكك وضياع سلطانه فقَبِل بالنصرانية ديناً رسمياً للإمبراطورية، وأعلن اعتناقه للدين الجديد ودعوته لعقد أول مجمع مسكوني نصراني هو مجمع نيقية سنة 325م الذي أعلنت النصرانية على أثره عقيدة رسمية للإمبراطورية الرومانية.
إقرأ المزيد: النصرانية ديانة وثنية علمانية* (الحلقة الثالثة)
مصطفى إنشاصي
من المفاهيم الخاطئة الشائعة لدى المثقفين والمختصين عن الغرب وتاريخ تطور مجتمعاته؛ أن المجتمعات الغربية خلال تطورها التاريخي مرت في أطوار ومراحل متعددة إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم، وأن مرحلة حكم الكنيسة ورجال الدين –العصور الوسطى الأوروبية-كانت من أسوأ مراحلها، حيث ساد فيها الجهل والتخلف والظلم والاستبداد ومحاربة العلم والعلماء...إلخ، وأن الغرب بفضل تحرره من حكم الكنيسة ورجال الدين حقق تقدمه وثورته العلمية ونهضته الحديثة والمعاصرة، وأنه في ظل دوله العلمانية المدنية التي ليس للدين ورجاله في مؤسساتها المختلفة مكان لأن الذي يقوم بتنظيم شئون الدولة والمجتمع وحياة الأفراد هي القوانين الوضعية التي يتم اختيارها على أسس ديمقراطية وتأخذ برأي الأغلبية، وأن التدين من الشئون الفردية والشخصية وعلاقة بين الإنسان وربه، في تلك الدول حقق الغرب المساواة بين مواطنيه على أساس التساوي في حقوق المواطنة! وأنه إذا ما أراد أي شعب أو أمة في العالم وخاصة الإسلامي أن يحققوا التقدم والنهضة العلمية والمساواة في حقوق المواطنة عليه أن يقتدي بالغرب وأن يأخذ بالتجربة الغربية في الفصل بين الدين وجميع مناحي الحياة (العلمانية والدولة المدنية)، وذلك بناءً على اعتبار أن مرحلة العصور الوسطى الأوروبية مرحلة الحكم الديني في الغرب وأنها كانت سبب تخلفه، دون التمييز بين خصوصية المجتمعات الغربية ومراحل تطورها ومفهوم الدين لديها منذ فجر تاريخها وبين خصوصية غيرها من المجتمعات والأديان الأخرى وخاصة الإسلام؟! ذلك ما سنحاول توضيحه لكل ذي عقل وباحث عن معرفة والحقيقة!.
إقرأ المزيد: الجذور التاريخية للعلمانية في الغرب (الحلقة الثانية)
المزيد من المقالات...
الصفحة 15 من 28