بســم الله الـرحمــن الرحيــم
الرأسمالية وفكر التسوية؛ نشأته وخطره
نشأ فكر التسوية بعد صراع دموي طويل في أوروبا انتهى بتسوية تاريخية منعت الحسم بين حكم الدين وحكم الإلحاد، حيث تمت الاستعاضة عنهما بالعقيدة العلمانية. ومن العلمانية نشأت فكرة أن يشرع الشعب لنفسه. وهذا النمط من التشريع كان يحتاج إلى الحريات المطلقة، ومن الحريات المطلقة أعطيت الحرية الاقتصادية. ومن باب الحرية الاقتصادية دخل الرأسماليون إلى الحكم وسيطروا عليه تمام السيطرة. وبهذا نشأ المبدأ الرأسمالي والنظام الرأسمالي والعقيدة العلمانية، ونشأ منهاج التسوية نمطًا أساسيًا في التعاطي مع عقد الحياة، سيما في حل النزاعات حتى وإن كان نزاعا بين حق وباطل.
وقد كانت الذروة لهذه الرأسمالية عندما انتهت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي والشيوعية وخلت الساحة إلى حد بعيد للرأسمالية ومبدئها، فتزعمت أمريكا العالم وأوهمت الشعوب بأنها ستقودهم إلى السعادة ورغد العيش. فكان من أول ما قدمته للشعوب في تلك المرحلة مشروع العولمة وبأنها ستقرب بين الشعوب عبر تقوية وسائل الاتصالات وتطبيق فكرة اقتصاد السوق.
لكن الأمر انتهى بالصدمة عند هذه الشعوب حين ازداد الفقر والبطالة وتضخمت العملة وتوالت الانهيارات الاقتصادية مقابل الثراء المتصاعد لمجموعة صغيرة من الناس في العالم. فأدركت الشعوب أنه قد تم كشفها أمام جشع الرأسماليين وخططهم لاحتكار أسواقهم والهيمنة على مقدراتهم. ثم أضيف إلى ذلك سلسلة من الحروب التي اجتاحت أنحاء كثيرة من العالم، والتي تركزت بشكل أساسي في العالم الإسلامي الذي ظهرت فيه دعوات للخروج والتحرر من المنظومة الدولية، فعوملت هذه الدعوات بوحشية.
وقد نتج عن هذه الحروب ما يشبه آثار الحروب العالمية، حيث استعملت فيها جميع أنواع الأسلحة ووسائل القتل ما دون القنبلة الذرية. فقتل بذلك الملايين وجرح عشرات الملايين ودمرت مدن كثيرة وشردت شعوب بأكملها. كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم، وبتصوير مباشر من كاميرات الأخبار! فزاد هذا الأمر من الصدمة عند الشعوب ومن حقدها على أسياد النظام الرأسمالي.
وعلى أثر هذا التردي في الوضع العالمي بدأت الشعوب تعيد النظر في "منهاج التسوية"، وبدأ التمرد على الرأسماليين، وفي مقدمتهم أمريكا. وقد تلا هذا التمرد عدد من الانسحابات من مشروع العولمة، وعاد التوجه من جديد إلى فكرة حسم الصراع ما بين الأيديولوجيات. وقد أطلق الغرب تسمية "التطرف" على دعوات الحسم التي ظهرت عند الشعوب مثل "الإسلام المتطرف" و"اليمين المتطرف".
ولكي تحافظ أمريكا على موقعها في العالم بدأت تحاول أن تعيد العالم إلى أجواء شد الحبال الشرس عبر إثارة التناقضات لكي تُشغل الشعوب بصراعات استنزاف وذلك لمحاولة تيئيسهم من الحسم وإعادتهم إلى فكرة الحل "بالتسوية" من جديد.
وقد ظهر هذا في مناطق عدة من العالم، فظهر في سوريا، حيث شحنت أمريكا بلاد الشام بالجيش الإيراني والروسي والكردي، كما استغلت تنظيم الدولة لمحاولة استنزاف مخزون الثورة، ثم عملت على الوسوسة للفصائل للقبول "بالتسوية السياسية" مع النظام تحت ضغط الاستنزاف.
في اليمن دفعت أمريكا إيران لتدعم حرب الحوثيين والسعودية لتدمر اليمن من أجل استنزاف خصومها من عملاء الإنجليز ليقبلوا بالتسوية.
في ليبيا دفعت أمريكا بعميلها حفتر لاستنزاف البلاد كي يقبل خصومها بالتسوية.
في مصر عرضت أمريكا على الإخوان منصب الرئاسة مقابل "التسوية السياسية بكبح جماح الثورة" وحماية رؤوس العسكر من السقوط على أيدي الثوار.
في أفغانستان تقوم أمريكا بالضغط على تنظيم طالبان لكي تدخله في التسوية السياسية مع الحكومة الأفغانية.
في منطقة الصين حاولت أمريكا إدخال روسيا والآن اليابان في صراع مع كوريا الشمالية من أجل جر الصين إلى تسوية تكبلها إقليميا ودوليا.
هكذا هو فكر التسوية... ينشأ بعد نفاد صبر الخصوم وطول أمد الاستنزاف، فتبدأ وساوس شياطين الإنس والجن بالضغط على أصحاب القضية، فتحاول أن تقنعهم بالتفريط بمبادئهم وثوابتهم تحت عناوين متعددة، مثل "الواقعية" و"تغليب المصلحة" و"نحن مع ما يطلبه الشعب" و"الناس تعبت"… وغيرها من العناوين التي تعود في حقيقتها إلى فكرة واحدة، وهي أن قادة الصراع بالأساس غير مؤهلين لهكذا أعباء وقد نفد ما عندهم من مخزون الصبر وأصابتهم الخيبة.
وما يسعنا مع هؤلاء إلا أن نشفق عليهم وعلى الأمة المكلومة قبلهم.
وهنا لا بد من العودة إلى سيرة رسول الله e وأن نتذكر كيف أنه كان يرفض دائما التنازل عن ثوابت قضية الإسلام، ألا وهي أن يكون الحكم خالصا لسيادة الشرع، رغم كل عروض التسوية التي قدمها له خصوم الإسلام. فوجدناه لم يقبل بنصف الحكم ولا بمعظمه ولا بتغيير أي جزئية أنزلها الله ولو أدى ذلك إلى هلاكه.
فقد وعدت قريش سيدنا محمدًا e بكثير من المغريات لكنه رفض أي مساومة وأي تسوية. فقد جاء إليه عتبة بتفويض من قريش وعرض عليه أمورًا، فكان من جملة ما عرضه عليه أن يترأس قريشًا، لكنه رفض رفضا قاطعا. قال عتبة: "إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه".
وقد أيد القرآن موقف رسول الله e ورفضه الدائم لأي تسوية تعرضها قريش مهما كانت عظيمة ومغرية. قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾. وكان إصراره e رغم حالة الضعف الأمني التي كانت تعتري دعوته، ورغم استحكام قريش بشبابه وإذاقتهم أصنافا من الشقاء، من مقاطعة وإهانات وسجن وتعذيب وقتل وتشريد... وذلك أن سنة الله في الدعوة النقية أنها ستواجه بالرفض والأذى. قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾.
جميع هذه الآيات تخبرنا أن الله يريد أن يختبر صبرنا كما اختبر صبر الأمم التي من قبلنا، وأن الطريق في هذا الصبر هو التأسي بسيدنا محمد e، حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
فيا أيها المسلمون، تأسوا برسول الله e، لا تحيدوا عن منهاجه فهو لم يحِد، ولا تغرينكم الوعود بالتسوية، فإنها من منهاج ملة الكفر، وإن الشياطين تَعِدُ بالنار ولا تعد بالفلاح.
بقلم: المهندس صلاح الدين عضاضة
بســم الله الـرحمــن الرحيــم
الرأسمالية وفكر التسوية؛ نشأته وخطره
نشأ فكر التسوية بعد صراع دموي طويل في أوروبا انتهى بتسوية تاريخية منعت الحسم بين حكم الدين وحكم الإلحاد، حيث تمت الاستعاضة عنهما بالعقيدة العلمانية. ومن العلمانية نشأت فكرة أن يشرع الشعب لنفسه. وهذا النمط من التشريع كان يحتاج إلى الحريات المطلقة، ومن الحريات المطلقة أعطيت الحرية الاقتصادية. ومن باب الحرية الاقتصادية دخل الرأسماليون إلى الحكم وسيطروا عليه تمام السيطرة. وبهذا نشأ المبدأ الرأسمالي والنظام الرأسمالي والعقيدة العلمانية، ونشأ منهاج التسوية نمطًا أساسيًا في التعاطي مع عقد الحياة، سيما في حل النزاعات حتى وإن كان نزاعا بين حق وباطل.
وقد كانت الذروة لهذه الرأسمالية عندما انتهت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي والشيوعية وخلت الساحة إلى حد بعيد للرأسمالية ومبدئها، فتزعمت أمريكا العالم وأوهمت الشعوب بأنها ستقودهم إلى السعادة ورغد العيش. فكان من أول ما قدمته للشعوب في تلك المرحلة مشروع العولمة وبأنها ستقرب بين الشعوب عبر تقوية وسائل الاتصالات وتطبيق فكرة اقتصاد السوق.
لكن الأمر انتهى بالصدمة عند هذه الشعوب حين ازداد الفقر والبطالة وتضخمت العملة وتوالت الانهيارات الاقتصادية مقابل الثراء المتصاعد لمجموعة صغيرة من الناس في العالم. فأدركت الشعوب أنه قد تم كشفها أمام جشع الرأسماليين وخططهم لاحتكار أسواقهم والهيمنة على مقدراتهم. ثم أضيف إلى ذلك سلسلة من الحروب التي اجتاحت أنحاء كثيرة من العالم، والتي تركزت بشكل أساسي في العالم الإسلامي الذي ظهرت فيه دعوات للخروج والتحرر من المنظومة الدولية، فعوملت هذه الدعوات بوحشية.
وقد نتج عن هذه الحروب ما يشبه آثار الحروب العالمية، حيث استعملت فيها جميع أنواع الأسلحة ووسائل القتل ما دون القنبلة الذرية. فقتل بذلك الملايين وجرح عشرات الملايين ودمرت مدن كثيرة وشردت شعوب بأكملها. كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم، وبتصوير مباشر من كاميرات الأخبار! فزاد هذا الأمر من الصدمة عند الشعوب ومن حقدها على أسياد النظام الرأسمالي.
وعلى أثر هذا التردي في الوضع العالمي بدأت الشعوب تعيد النظر في "منهاج التسوية"، وبدأ التمرد على الرأسماليين، وفي مقدمتهم أمريكا. وقد تلا هذا التمرد عدد من الانسحابات من مشروع العولمة، وعاد التوجه من جديد إلى فكرة حسم الصراع ما بين الأيديولوجيات. وقد أطلق الغرب تسمية "التطرف" على دعوات الحسم التي ظهرت عند الشعوب مثل "الإسلام المتطرف" و"اليمين المتطرف".
ولكي تحافظ أمريكا على موقعها في العالم بدأت تحاول أن تعيد العالم إلى أجواء شد الحبال الشرس عبر إثارة التناقضات لكي تُشغل الشعوب بصراعات استنزاف وذلك لمحاولة تيئيسهم من الحسم وإعادتهم إلى فكرة الحل "بالتسوية" من جديد.
وقد ظهر هذا في مناطق عدة من العالم، فظهر في سوريا، حيث شحنت أمريكا بلاد الشام بالجيش الإيراني والروسي والكردي، كما استغلت تنظيم الدولة لمحاولة استنزاف مخزون الثورة، ثم عملت على الوسوسة للفصائل للقبول "بالتسوية السياسية" مع النظام تحت ضغط الاستنزاف.
في اليمن دفعت أمريكا إيران لتدعم حرب الحوثيين والسعودية لتدمر اليمن من أجل استنزاف خصومها من عملاء الإنجليز ليقبلوا بالتسوية.
في ليبيا دفعت أمريكا بعميلها حفتر لاستنزاف البلاد كي يقبل خصومها بالتسوية.
في مصر عرضت أمريكا على الإخوان منصب الرئاسة مقابل "التسوية السياسية بكبح جماح الثورة" وحماية رؤوس العسكر من السقوط على أيدي الثوار.
في أفغانستان تقوم أمريكا بالضغط على تنظيم طالبان لكي تدخله في التسوية السياسية مع الحكومة الأفغانية.
في منطقة الصين حاولت أمريكا إدخال روسيا والآن اليابان في صراع مع كوريا الشمالية من أجل جر الصين إلى تسوية تكبلها إقليميا ودوليا.
هكذا هو فكر التسوية... ينشأ بعد نفاد صبر الخصوم وطول أمد الاستنزاف، فتبدأ وساوس شياطين الإنس والجن بالضغط على أصحاب القضية، فتحاول أن تقنعهم بالتفريط بمبادئهم وثوابتهم تحت عناوين متعددة، مثل "الواقعية" و"تغليب المصلحة" و"نحن مع ما يطلبه الشعب" و"الناس تعبت"… وغيرها من العناوين التي تعود في حقيقتها إلى فكرة واحدة، وهي أن قادة الصراع بالأساس غير مؤهلين لهكذا أعباء وقد نفد ما عندهم من مخزون الصبر وأصابتهم الخيبة.
وما يسعنا مع هؤلاء إلا أن نشفق عليهم وعلى الأمة المكلومة قبلهم.
وهنا لا بد من العودة إلى سيرة رسول الله e وأن نتذكر كيف أنه كان يرفض دائما التنازل عن ثوابت قضية الإسلام، ألا وهي أن يكون الحكم خالصا لسيادة الشرع، رغم كل عروض التسوية التي قدمها له خصوم الإسلام. فوجدناه لم يقبل بنصف الحكم ولا بمعظمه ولا بتغيير أي جزئية أنزلها الله ولو أدى ذلك إلى هلاكه.
فقد وعدت قريش سيدنا محمدًا e بكثير من المغريات لكنه رفض أي مساومة وأي تسوية. فقد جاء إليه عتبة بتفويض من قريش وعرض عليه أمورًا، فكان من جملة ما عرضه عليه أن يترأس قريشًا، لكنه رفض رفضا قاطعا. قال عتبة: "إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه".
وقد أيد القرآن موقف رسول الله e ورفضه الدائم لأي تسوية تعرضها قريش مهما كانت عظيمة ومغرية. قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾. وكان إصراره e رغم حالة الضعف الأمني التي كانت تعتري دعوته، ورغم استحكام قريش بشبابه وإذاقتهم أصنافا من الشقاء، من مقاطعة وإهانات وسجن وتعذيب وقتل وتشريد... وذلك أن سنة الله في الدعوة النقية أنها ستواجه بالرفض والأذى. قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾.
جميع هذه الآيات تخبرنا أن الله يريد أن يختبر صبرنا كما اختبر صبر الأمم التي من قبلنا، وأن الطريق في هذا الصبر هو التأسي بسيدنا محمد e، حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
فيا أيها المسلمون، تأسوا برسول الله e، لا تحيدوا عن منهاجه فهو لم يحِد، ولا تغرينكم الوعود بالتسوية، فإنها من منهاج ملة الكفر، وإن الشياطين تَعِدُ بالنار ولا تعد بالفلاح.
بقلم: المهندس صلاح الدين عضاضة
يصادف الثامن من آذار/مارس من كل عام ما يسمّى بيوم المرأة العالمي الذي انبثق عن حراك عمالي نسائي، لكنه ما لبث أن أصبح حدثا سنويا اعترفت به الأمم المتحدة. ففي عام 1908، خرجت 15,000 امرأة في مسيرة احتجاجية بشوارع مدينة نيويورك الأمريكية، للمطالبة بتقليل ساعات العمل وتحسين الأجور والحصول على حق التصويت في الانتخابات، وفي العام التالي، أعلن الحزب الاشتراكي الأمريكي أول يوم وطني للمرأة. ثم تحول إلى يوم عالمي عام 1910 في مؤتمر دولي للمرأة العاملة عقد في مدينة كوبنهاغن الدنماركية. واحتفل به لأول مرة عام 1911، في كل من النمسا والدنمارك وألمانيا وسويسرا. وأصبح الأمر رسميا عام 1975 عندما بدأت الأمم المتحدة بالاحتفال بهذا اليوم واختيار موضوع مختلف له لكل عام؛ وكان أول موضوع عام 1976 يدور حول "الاحتفاء بالماضي، والتخطيط للمستقبل" أي كان بسبب هضم حقوق المرأة الغربية ومطالَبة برفع الظلم عنها.
وهذا العام 2020 تركز احتفالية هذا اليوم على حملة "أنا جيل المساواة: إعمال حقوق المرأة" في إطار حملة هيئة الأمم المتحدة للمرأة الجديدة المتعددة الأجيال، وهو جيل المساواة، الذي يأتي بمناسبة مرور 25 عاماً على اعتماد إعلان ومنهاج عمل بيجين، والذي اعُتمد في عام 1995 في المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة في بيجين عاصمة الصين، باعتباره خارطة الطريق الأكثر تقدماً لتمكين النساء والفتيات في كل مكان.
يعدُّ عام 2020 كما يدعي (حماة حقوق المرأة) عاماً محورياً للنهوض بالمساواة بين الجنسين في جميع أنحاء العالم، حيث يقوم المجتمع العالمي بتقييم التقدم المحرز في مجال حقوق المرأة منذ اعتماد منهاج عمل بيجين. كما سيشهد العديد من اللحظات الحثيثة في حركة المساواة بين الجنسين: مرور خمس سنوات منذ إعلان أهداف التنمية المستدامة؛ الذكرى العشرين لقرار مجلس الأمن 1325 بشأن المرأة والسلام والأمن، والذكرى العاشرة لتأسيس هيئة الأمم المتحدة للمرأة.
لكن لو نظرنا لوضع المرأة بعد كل هذه السنين في ظل النظام الرأسمالي، هل فعليا نالت حقوقها وكرامتها؟ هل فعلا نالت المساواة المزعومة وعاشت الرفاهية التي تبحث عنها؟
لقد خرجت المرأة للعمل في مختلف الميادين والأعمال والمهن لتحقق ذاتها واستقلالها الاقتصادي، وفي الوقت نفسه عليها أعباء البيت والأولاد، فزاد عليها الحِمل والتعب الجسدي والنفسي الناتج عن محاولة إيجاد توازن بين أعباء الأسرة والمنزل وضغط العمل ومسؤولياته... خاصة أن النظام الرأسمالي لا يعترف إلا بالمنافع والمكاسب والأرباح ولو على حساب الإنسان. مما قلل من قيمة الأمومة والأسرة، حيث كان العمل على حسابهما فلم يعد للمرأة الوقت والمناخ الجيد للعناية بأطفالها كما يجب، خاصة أنها تسعى لإثبات ذاتها في هذا العمل. ولا ننسى جو الصراع الذي أصبح يسود العلاقة الزوجية، منطلقا من مفهوم المساواة وتغيير ما أسموه بالدور النمطي لكليهما، وتفضيل دور المعيل على دور ربة البيت، مما جعل المرأة ترى دورها كأم وربة بيت امتهاناً لها وتحجيماً لذاتها وطموحاتها، وعليها التخلص منه أو تقليل أهميته.
ولو عدنا إلى يوم المرأة العالمي لرأينا احتفالا هنا وتكريما هناك؛ ندوات هنا ولقاءات هناك؛ كلها تتكلم عن المرأة وحقوقها ورفع الظلم عنها، وإنقاذها من العنف الممارس ضدها، وعن تمكين المرأة الاقتصادي والمجتمعي والرياضي، وعن دورها المهم في المجتمع، وعن مساواتها بالرجل ووجوب رفضها دورها الأساسي الذي فطرها الله عليه لأنه يتعارض مع تلك الحقوق والمساواة، وعن جرائم العنف والشرف والتحرش والتعنيف والتنمر الممارس ضدها... وفي كل هذا يكثر الهجوم على الإسلام وأحكام الإسلام وكأنه المسئول عن كل هذا!!
كلام يناقضه الواقع، وتنظير تكشف زيفه الأفعال. فالعنف ضد المرأة في البلاد غير الإسلامية كثيرة ومتعددة ومتنوعة، والإحصائيات تزداد يوما بعد يوم ولكنهم لا يركزون عليها مثلما يركزون على العنف في البلاد الإسلامية الذي فيه حقوق المرأة مهضومة ومنهم من يعاملها كأنها كائن من الدرجة الثانية أو الثالثة أو العاشرة بسبب البعد عن أحكام الله وشرعه في التعامل مع المرأة بمختلف أدوارها وأماكن وجودها. فظلمها إنما هو بسبب الابتعاد عن الإسلام وليس بسبب الإسلام كما يدعون ويريدون للمرأة المسلمة أن تصدق هذا. ويخلطون عن عمد وخبث بين العادات البالية التي تهضم حقوق المرأة والتي في بعض المناطق تمنع المرأة من التعليم والعمل والموافقة على الزوج وتحرمها من الميراث أو تنظر إليها نظرة استخفاف أو عدم احترام أو لا يسمح لها بالإدلاء برأيها وغير ذلك من سلوكيات، وينسبونها إلى الإسلام.
وذلك لأن الغرب وأعوانه من الذين يكيدون للإسلام وأهله تهمهم قضية إبعاد المرأة المسلمة عن جوهر دورها الأصلي وجعلوها شغلهم الشاغل لأنهم يعلمون أنهم بهذا يقضون على جيل كامل قادم يمكن أن يعيد دولة الإسلام، وتحويله إلى جيل مسخ تكون قدوته ممثلة أو مغنياً أو لاعب كرة قدم أو بائعاً لدينه وقيمه أو غيرهم ممن تشبع بهم النظام الرأسمالي العفن الذي ترزحون تحته وتتوقعون منه تحرير الأقصى، بدل أن يكون قدوته صلاح الدين ونسيبة المازنية وخولة بنت الأزور... فبذلوا الملايين في حرفها عن دينها وبشتى الوسائل في تطبيق اتفاقياتهم الخبيثة مثل سيداو ومنهاج بيجين اللذين يريدون بهما إعادة بناء حياة الأسرة بتغيير الأحكام الشرعية لتوافق الرأسمالية وذلك بحجة الحرية والمساواة والحداثة والحقوق وغير ذلك من الشعارات الخادعة الزائفة، متجاهلين ومحرفين أحكام الإسلام ومفاهيمه التي لا يعتبر دور المعيل بحسبها أكثر أهمية من دور ربة البيت، بل يكون الدوران متوازنين متكاملين بما فيه خير الأسرة والمجتمع، ونظرته للمرأة ونجاحها لا يكون على أساس أنها امرأة عاملة، بل يمنحها الإسلام بدلا منها منزلة عظيمة كأم أو أخت أو ابنة... وبالتالي فإن ربات البيوت اللواتي لا يخرجن للعمل لا يشعرن بنقص بل هن في منزلة عالية ولهن دورهن الفعال في تربية وتنشئة أطفالهن ليصبحوا أشخاصاً صالحين يستقيم بهم المجتمع. فهذا هو النظام الإسلامي الذي يحرر المرأة حقا من أغلال الرأسمالية.
إن تكريم المرأة وتكريم الأم والزوج والابنة لا يكون في يوم واحد في السنة تتناثر فيه الشعارات وتتعالى فيه أصوات الخطباء بخطب رنانة وألفاظ براقة تخلب عقول البسطاء وسطحيي التفكير من الناس... بينما بقية السنة استغلال لها ولكرامتها وجسدها بحجة الحرية والمساواة والتحضر... بل يكون تكريمها وعزتها طوال العام بتطبيق أحكام الإسلام. وما نراه من ذل ومهانة لها هو لأننا ابتعدنا عن هذه الأحكام الصحيحة وحرّفنا مفاهيمها، فصرنا نحتفل بالمرأة مع الذين هضموا حقوقها فأعطوها يوما مدعين أنه يومها لتحتفل به وتطالب بحقوقها.
فسحقا لهم ولأعيادهم الزائفة وشعاراتهم الكاذبة الخادعة وأهلا بالإسلام الحقيقي غير المشوه بترّهات وفتاوى أدعياء مضللين يقولون عن أنفسهم علماء وشيوخ! أهلا بالإسلام الحقيقي الصافي غير المحرَّف شريعة ومنهاجا ودستور حياة، وأنت أيتها المرأة أبصري أين طريقك الصحيح واتبعيه ولا تنخدعي بتلك الشعارات الزائفة البراقة الخادعة.
بالرغم من أنّ فيروس كورونا لم يحصد أرواح الملايين من البشر كما فعلت الإنفلونزا الإسبانية في النصف الأول من القرن العشرين، وبالرغم من أنّ نسبة الوفيات الناجمة عنه هي أقل بكثير من وفيات أمراض أخرى كالطاعون والجدري والإيدز وإيبولا، إلاّ أنّ خطورة هذا المرض آتية من كونه أصبح عالمياً، فتسببّ في إيقاف عجلة الاقتصاد، وإيقاع غالبية دول العالم في حالةٍ مُفاجئة من الركود، فضرب قطاعات الطيران والسياحة والصناعة والتجارة العالمية في مقتل، وأوقف النمو الاقتصادي، وفاقم مشكلة البطالة، وشلّ الحياة المعيشية والتعليمية، ويُخشى إنْ طالت مدته أنْ يُغرق العالم في حالة كساد شامل.
إنّ سرعة انتشار فيروس كورونا وعجز الأجهزة الصحية في الدول عن وقفه والتصدي له جعله مرضاً عالمياً عابراً للحدود، وجعله يؤثّر في العلاقات الدولية، وفي النظام الدولي وفي الموقف الدولي.
فكورونا تحوّل بالفعل إلى حدثٍ دولي بامتياز يرفع قوىً دولية ويُنزّل أخرى، وهو فرصة دولية تقتنصها دول فترتفع مكانتها، ويزداد ثقلها الدولي، وهو أيضاً عبء ثقيل تنوء دول بحمله فتفقد مكانتها، ويتراجع تأثيرها الدولي.
لقد كشف فيروس كورونا عملياً عن قوة وضعف القوى الكبرى من خلال سلوكها تجاهه، فسجّلت الصين مثلاً تفوقاً ملحوظاً في تعاملها السياسي مع المرض داخلياً وخارجياً؛ ففي الداخل تعاملت القيادة الصينية بصرامة بالغة مع رعاياها لمنع تفشي المرض، وكان أداؤها فيه يتّسم بكفاءة مهنية عالية استخدمت فيها كل إمكانياتها العلمية المتقدمة، فنجحت في تحجيم المرض، وأوقفت تفشيه في مدة قياسية أذهلت العالم.
وأمّا في الخارج فقد مدّت الصين يد العون لإيطاليا وصربيا وإيران وكل من طلب منها العون، فتصرفت تجاه الآخرين، لا من منطلق الربح والخسارة وإنّما من منطلق المسؤولية الدولية، فاكتسبت احترام وتقدير دول العالم لها، وأصبح يُنظر إليها كدولة عظمى تحتاجها سائر دول العالم، وخطب رئيس صربيا في شعبه شاكراً الصين على وقفتها مع بلاده، لامزاً في قناة حلفائه الأوروبيين على تقصيرهم في تقديم المساعدات لدولته.
وفي المقابل ظهرت أمريكا في موقف الدولة الانتهازية الأنانية التي لا تبحث إلا عن مصالحها، فتريد مثلا شراء ملكية عقار ألماني بمليار دولار ليكون حكراً لها، فبدت في حالة استغلال رأسمالية جشعة، لا يهمها إلا تسجيل الأمصال المكتشفة في ملكيتها الفكرية، فكان موقفها المصلحي هذا غير مُتناسب مع هذه الأزمة من حيث كونها دولة أولى في العالم من واجبها مساعدة الآخرين عند حاجتهم لها.
أمّا أوروبا فظهرت أمام هذا الحدث كقوة دولية مُتراخية وضعيفة وغير مُتماسكة وغير مُتعاونة وغير جادة في مُواجهة المرض منذ بداية ظهوره، فتأخرت في المواجهة، وتراجعت في البروز كقوة مُتماسكة، وتشرذمت كل دولة من دول الاتحاد في حالة من العزلة تُواجه مصيرها بمفردها، فلم ينفعها اتحادها الأوروبي، ولم يُفدها حلف الناتو، ولم يظهر فيها قوى دولية على مستوى عالمي، فسقطت فرنسا وألمانيا في فخ الاختبار الإيطالي والإسباني والصربي، وكذلك بريطانيا فلم تختلف عن نظيراتها الأوروبيات فانكفأت على نفسها ولم تظهر بمظهر الدولة العالمية في هذا الحدث.
لقد ارتفعت الصين من ناحية دولية، وتراجعت أوروبا، وفقدت أمريكا ثقة العالم بها، وهذا مؤشر يدل على بدء تغيّر في الموقف الدولي، ولكنّه تغيّر محدود، فلا يُعتبر إعادة تشكيل للموقف الدولي، ولا توجد مؤشرات على قرب انهيار المنظومة الدولية الحالية، وإنْ كان يُمثّل بداية تراجع للموقف الدولي الذي تمثّل بضعف المواقف الأمريكية والأوروبية من هذا الحدث، وزيادة قوة الموقف الصيني، لكنّ هذا التغيّر الدولي الواضح في النظام الدولي يبقى محدوداً ولا يُبدّل الموقف الدولي الراهن وإنْ كان يؤثّر فيه.
فلا توجد مؤشرات على الانهيار، بل توجد مؤشرات على تخلخل النظام وضعفه الناجم عن ضعف قيادته وتراجع الثقة فيها، ولعلّ هذا التخلخل والعطب الذي أصاب النظام الدولي بسبب هذا الحدث المُهم يكون من بشائر ولادة دولة الإسلام القادمة التي ستطيح بهذا النظام العالمي الباطل، والتي ستؤسّس نظاماً دولياً جديداً يقود العالم قيادةً تليق بعظمة الإسلام وعدله ونوره.
المزيد من المقالات...
- ثورة الشام بين مواقف الدول والخداع السياسي
- صحّة الطّفل في تونس بين سراب الاتفاقيات الدولية وحقيقة الواقع الرّأسماليّ المُزري
- جواب سؤال: تداعيات فيروس كورونا
- كلمة أمير حزب التحرير العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة بمناسبة الذكرى الــ99 لهدم دولة الخلافة
- جواب سؤال: القواعد الشرعية بين الراجح والمرجوح
الصفحة 24 من 132