التنصير في جنوب السودان

طباعة

 م. محمد مصطفى مالك

قد يبدو غريباً أن نعلم أن جنوب السودان الذي يمثل الآن قاعدة صليبية حيوية لفرض النصرانية ومنع انتشار الإسلام في أعماق أفريقيا هو نفسه جنوب السودان الذي دخله الإسلام قبل النصرانية بعدة قرون، بل إن مملكة الفونج الإسلامية (السلطنة الزرقاء1500م ـ 1821م) كانت من أصول جنوبية، كما أن قبائل الجنوب كانت أكثر تجاوباً مع حركة المهدي الإسلامية (1885م ـ 1898م)؛ إذ أخذت بعض القبائل بتقليد لباسها وأعلامها وصيحاتها في الحرب بصورة عفوية، وهاجرت إليه قبائل أخرى لمبايعته طوعاً؛ في حين أن تلك القبائل قابلت الإرساليات التنصيرية الأولى بتوجس ونفور شديدين؛ إذ لم تفلح تلك الإرساليات منذ مقدمها عام 1846م ولمدة خمسة عشر عاماً في تنصير فرد واحد مع أنها فقدت في سبيل ذلك أكثر من أربعين مُنصِّراً، وقد كتب القس (رفيجو أنطوني ماريا) عام 1901م قائلاً: حينما بدأ مع الأب تابي العمل وسط الشلك: «لم يكونوا يريدوننا وسطهم، كانوا يكرهوننا، وحاولوا مرتين أن يقتلونا».
غير أن هذه الغرابة ستتبدد تماماً حينما ندرك مقدار المؤامرة والمكر الكبير الذي أعاد تشكيل ذلك الإقليم، وأعده للعب دور فعال ومؤثر في صياغة هوية كل السودان، وفي تكوين حائط ضد التوجهات العربية الإسلامية.

لم تحظ مجاهل السودان الجنوبية البعيدة باهتمام معتبر من قِبَل الممالك النصرانية القديمة (كممالك النوبة ونبتة وكوش)، ولا من الممالك الإسلامية (كمملكة الفور والفونج) فيما قبل القرن التاسع عشر، كما انشغلت حركة المهدي بالتوسع واستقرار الدولة في الشمال عن الزحف باتجاه الجنوب الذي كان يعيش في حالة أقرب إلى الفوضى وانعدام السلطان، وباستثناء التوافد التجاري لبعض الأوروبيين فإن إرساليات التنصير لم تبدأ بصورة جدية إلا بعد إنشاء دائرة أفريقيا الوسطى بأمر من البابا جريجوري السادس عشر عام 1846م، في محاولة لاستباق البروتستانت والتجار المسلمين إلى المنطقة، ثم توالت بعد ذلك الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية والإنجليكانية والأميركية وغيرها في سباق شره ومحموم للاستحواذ على تلك الأقاليم.

تميزت مناطق الجنوب ببيئة جغرافية ومناخية قاسية تسببت في هلاك عشرات القساوسة والمنصرين مما ألهب حمية الآخرين، وأكسب القضية بعداً جديداً لتحفيز العمل الصليبي وليس تثبيطه. لقد أخذ المنصِّر الإيطالي الشهير(دانيال كمبوني) العهد على نفسه وهو يشهد احتضار أحد القساوسة بأن ينذر حياته لتنصير أفريقيا أو الموت على درب من سبقوه. وبدأ القس (ليوللن قوبي) تأسيسه للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية بشعار «إعادة نصب راية المسيح التي سقطت» ويقول: «إن على الكنيسة ألا تخلد إلى الراحة حتى تستعيد ما كان لها مرة أخرى»، إن دوائر التنصير تتحدث عن إقليم الجنوب السوداني كما لو أنه ملك لهم وحدهم لا يسع أحداً أن يزاحمهم فيه رغم أن تلك الكنائس لم تقدم لأهل الجنوب طوال قرن ونصف ما يصلح أن تنبني عليه حضارة. إن تلك المقاطعات الآن هي أكثر مناطق السودان جهلاً وتخلفاً وبدائية مع أن تلك الكنائس كانت تستأثر بالسلطة والدعم الحكومي والإمداد الأجنبي لفترات طويلة كانت كافية لإحداث تغيير كبير إن أريد له ذلك!

إن الضغينة والحنق على الإسلام والرغبة العنيفة لإقصائه هي أهم أهداف تلك الحملة الصليبية على المنطقة، إنها تدرك أنه لو نفذ الإسلام إلى هناك فإن ذلك مدعاة لانتشاره في كامل القرن الأفريقي ومنابع النيل ومنطقة البحيرات، وهي مناطق استراتيجية مهمة ومفصل حركة القارة، وهذه ميادين لا مساومة فيها؛ ومن ثم سعت الكنيسة إلى نفي كل أثر يتعلق به من الجنوب، لقد كتب (اللورد كتشنر) عام 1892م قائلاً: «ليس من شك في أن الدين الإسلامي يلقى ترحيباً حاراً من أهالي هذه البلاد، فإذا لم تقبض القوى النصرانية على ناصية الأمر في أفريقيا فأعتقد أن العرب سيخطون هذه الخطوة، وسيصبح لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه طرد كافة التأثيرات الحضارية إلى الساحل، وستقع البلاد في هذه العبودية». ويشرح القس (أرشيد كون شو) الأمر فيقول عام 1909م: «إن لم يتم تغيير هذه القبائل السوداء في السنوات القليلة القادمة فإنهم سيصيرون محمديين؛ إذْ هذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض التبشير، إنها تمتد في منطقة شرق أفريقيا في منتصف الطريق بين القاهرة والكاب». ثم يقول: «إن كانت الكنيسة في حاجة إلى مكان لإيوائها فهو هنا لصد انتشار الإسلام، والقضاء على تعاليم النبي الزائف». ونحن نقول: وهو تماماً ما تمت التوصية به في المؤتمر الإرسالي العالمي بأدنبرة عام 1910م: «إن أول ما يتطلب العمل إذا كانت أفريقيا ستكسب لمصلحة المسيح أن نقذف بقوة تنصيرية قوية في قلب أفريقيا لمنع تقدّم الإسلام».  

إن مجمل السياسات المصيرية في الفترة التي حكم الإنجليز فيها السودان بالانتداب بمواطئة من محمد علي باشا والي مصر آنذاك وهي تمتد من 1821م حتى 1885م، كانت تصنع في الكنيسة؛ إذ إنها تملك الحضور الفاعل في الميدان، وتملك المعلومات الاستخباراتية من شبكات كنائسها المنتشرة في كل النواحي، وتملك أدوات التأثير والضغط على الإدارة الحكومية، وتملك كذلك التمويل اللازم لتنفيذ سياساتها؛ ولذا كانت توجهات الإدارة الاستعمارية تسير باتجاه فصل الجنوب؛ يتحدث عن ذلك السكرتير الإداري (ماكمايكل) فيقول: «إنه من المعلوم أن تلجأ البعوث النصرانية خوفاً من التغلغل الإسلامي المتزايد إلى استخدام نفوذها في اتجاه فصل الجنوب»، وعلى إثر ذلك صدرت سياسة الجنوب والمناطق المقفولة في عام 1922م، كما كانت المؤسسات الإدارية الشمالية تقام بمعزل عن رصيفاتها الجنوبية، وعملت الكنائس على إيجاد أبعاد أخرى لمسوغات الانفصال بعد تحويل ديانة الجنوب إلى النصرانية كتعميق العنصرية، وإثارة الضغائن ضد المسلمين من أهل الشمال، وتقوية اللهجات المحلية مع جعل الإنجليزية هي لغة التواصل والثقافة. غير أن الإدارة الاستعمارية لأمر ما قد عدلت -آخر أمرها- عن فصل الجنوب، فأصدر السكرتير الإداري (جيمس روبرتسون) في ديسمبر عام 1946م أمراً بإلغاء سياسة الجنوب، وأقام مؤتمر جوبا عام 1947م -الذي جمع فيه الشماليين والجنوبيين ليختاروا خيار الوحدة، وكان هذا فخ أوقع الإنجليز فيه المسلمين في هذا البلد حيث كان مؤتمر جوبا هذا اعترافاً بأن البلد فيها شعبان مختلفان ويراد توحيدهما- ليرفع بعد ذلك توصياته للحاكم العام بأن الجنوبيين يفضلون الوحدة مع الشمال، ولم تكن مطالب الحركات الجنوبية أيام الاستقلال تتعدى الحكم الذاتي، وبعض المشاركة في الحكومة المركزية.

ومهما يكن من أمر فإن قضية انفصال الجنوب قضية معقدة لا يخلو أي خيار فيها من خسائر؛ لكن اليقين الوحيد هو أن القوى الصليبية لا تدعم وحدة تحت راية إسلامية ولا وحدة تمكن الإسلام من التغلغل في الجنوب. أما حين يكون الانفصال فإن تلك القوى ستضغط باتجاه كسب حدود أوسع كثيراً بصورة تكفي لتحويل ميزان الموارد الاستراتيجية كـ (النفظ والثروة الحيوانية والمراعي) لصالح الجنوب، ثم تقوم هي بباقي مهام بناء إمبراطورية صليبية هناك.
من خلال الأرضية المتينة التي توفرها الهيئات الكنسية والصليبية للحركات الجنوبية تمكنت ـ عبرها ـ من عرقلة أي محاولة لإقامة دستور إسلامي أو تطبيق الشريعة الإسلامية، ورغم أن كل الأحزاب السودانية الكبيرة لا تستصحب أي نية جادة في تطبيق حقيقي للشريعة الإسلامية، كما أنها تلتزم باستثناء المديريات الجنوبية منها. إلا أن مجرد إدراج عبارات فضفاضة بإسلامية الدستور أو الشريعة يعد سبباً كافياً لإثارة حملة شعواء ضدها وضد كل من يتبناها؛ فقد اعترضت المجموعات الجنوبية على النص بأن الإسلام دين الدولة والعربية لغتها في محاولة عام 1957م لكتابة الدستور. وحينما تكونت اللجنة القومية للدستور في إبريل/ نيسان عام 1967م كتبت الأحزاب الجنوبية مذكرة حذرت فيها اللجنة من خطورة أي توجه نحو تضمين مواد إسلامية في الدستور، ومن داخل الجمعية التأسيسية في يناير/ كانون الثاني 1968م اعترض الجنوبيون على المواد المتعلقة بالإسلام، وقال عنها العضو (وليم دينج): «إنها الجزء المتعفن الذي يجب إزالته حتى لا تتعفن به البقية». لقد كانت حركة التمرد (الحركة الشعبية) تتمسك بصلابة في كافة مفاوضاتها مع أحزاب الحكومات الانتقالية والمنتخبة بإلغاء قوانين الشريعة التي أعلن عن تطبيقها جعفر محمد نميري في سبتمبر/ أيلول 1983م. والعجيب أن حركات التمرد الجنوبية ومن ورائها المنظمات التنصيرية تريد أن تفرض رؤيتها الدينية على الشمال والجنوب في الوقت الذي ترفض بشدة أن يطبق الشمال رؤيته حتى في داخل حدوده الشمالية وحدها إن كان خياره الإسلام!!

لقد كانت الحركة التنصيرية تستهدف تنصير كل السودان ابتداءً من الوثنيين والذين لا عقيدة لهم من أهل الجنوب والنوبة وحتى تنصير المسلمين في شتى أنحاء السودان. جاء في خطط أعمال مؤتمر (كولورادو) عام 1978م: «لقد أوقفنا انتشار الإسلام في جنوب ووسط أفريقيا، وما نحتاج إليه هو العمل لإيجاد منافذ إلى داخل الإسلام»، لقد عملت الكنائس بجد على إيجاد مراكز لها في الشمال رغم أن القوانين الحكومية كانت تمنع أي إرساليات تنصيرية شمال خط عرض 10، وحتى الحكومة الإنجليزية نفسها لا تسمح لتلك الإرساليات بالعمل في الشمال إلا من خلال المدارس والمعاهد التعليمية؛ إلا أن الكنيسة أفلحت في تكسير تلك الحواجز ومد سلطانها إلى أبعد ما تبلغه ركابها. إن من المدهش أن نعلم أن نتاج هذا الجهد هو فقط 5% من مجموع ثلاثين مليون نسمة؛ بينما المسلمون 70%، وأصحاب المعتقدات المحلية 25% كما قدرته منشورة (CIA The world Fact back) وسوى مثل هذه التخمينات؛ فليس ثمة أي إحصائيات موثوقة لظروف الحرب والنزوح. أما الذي حققته الكنيسة في هذا المضمار فهو إيجاد صفوة جنوبية ذات ثقافة غربية حانقة على الإسلام بدرجة أكبر من حنق الكنيسة ذاتها. يقول الكاتب الإنجليزي (ساندرسون): “تحاول الكنيسة السودانية أن تستند إلى مقاومة الإسلام مقاومة إيجابية؛ أما المقاومة السلبية فهي عند الصفوة الجنوبية من خريجي مدارس الإرساليات تمثل واجباً دينياً مسيحياً”. هذه الصفوة هي التي يراد لها أن تقود جموع الجنوبيين وتسيِّر حركتهم الاجتماعية والسياسية إلى حيث تريدهم القوى الصليبية؛ ففي بوادر حركة الإرساليات النصرانية صرح القس (دانيال كمبوني) بهذه الاستراتيجية قائلاً: “سيتم توفير التعليم العالي للعناصر الأكثر كفاءة، والمأمول أن يتسلموا مقاليد القيادة في بلادهم” ، وهذا عين ما يحدث الآن. لقد استطاعت الكنيسة أيضاً أن تحدث شرخاً غائراً في وجدان الإنسان الجنوبي تجاه الإسلام والعروبة، وكل من يتبناها بشكل يمكن استغلاله دائماً في إثارة القلاقل وصناعة حركات تمرد جديدة. إن الكنيسة تعمل بجهد لكسب ولاء الجنوبيين لصالحها، وتنصِّب نفسها حارساً لمصالحهم، ومدافعاً مخلصاً عن حقوقهم ضد ما تسميه باضطهاد الدولة والهوس الإسلامي والاستعمار الشمالي.

إن المحصلة النهائية التي تسعى لها الصليبية في السودان هي طمس كل معالم الإسلام والعربية على مستوى التشريع والدولة، ومستوى الهيئات والمؤسسات الاجتماعية، ومستوى قطاعات الشعب والأفراد، إنها تطمح فعلاً لـ«سودان جديد»، فقد جاء في ورقة عمل قدمها مجلس الكنائس السوداني ضمن اجتماع مجلس عموم كنائس أفريقيا في لومي عام 1987م بعنوان (إنقاذ السودان): “المناداة بضرورة إيجاد السودان الجديد الخالي من السيطرة العربية”، ثم طالبت الورقة بدعم مجلس الكنائس الأفريقي والعالمي لإيجاده. هذا السودان الجديد هو مطلب الحركة الشعبية لتحرير السودان الذي تردده دائماً في بياناتها الرسمية.
لقد دُجّن الطلاب الجنوبيون باعتبارهم مسيحيين في المدارس الإرسالية التي كانت وحدها في الساحة، وكانت المسيحية تُمَثَّل بأنها ديانة متفوقة، ولم يكن من الصعب بناء أحقاد جنوبية ضد الشمال في مدارس الجنوب التي كانت تدرّس في تاريخها دوْر العرب في شراء وبيع الأفارقة كرقيق ؛ وهذه شهادة الوزير السابق وأحد قادة التمرد السياسيين (بونا ملوال)، وهو نفس ما أكدته لجان التحقيق في اضطرابات أغسطس 1955م التي كانت بداية التمرد المسلح.

لقد عملت الكنيسة -بخبث- على ربط الإسلام بتجارة الرق؛ في حين أن التجار الغربيين هم أصحاب هذه التجارة ، وعملت على إذكاء نار التفريق العنصري وإلصاقه بالإسلام؛ بينما لا تتحدث مطلقاً عما في كتابهم -المحرف- (الكتاب المقدس - الإصحاح التاسع): عن حام جد الأفارقة حيث يقول: “فلما استيقظ نوح من خمرة علم به ابنه الصغير فقال: عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك إله سام، وليكن كنعان عبداً لهم”. لقد صورت الكنيسة الدعوة إلى الإسلام على أنها حرب عنصرية ضد الجنوبيين، وأنه لا مناص من الانضمام إلى صف الكنيسة من أجل بقائهم، وأن كل جنوبي هو بالضرورة مضطهد من المستعمرين الشماليين الذين تعمل الكنيسة على محاربتهم من أجله. وهكذا استطاعت الكنيسة أن تضمن تشبث تلك المجموعات بها بنفس القدر الذي تضمن به شحنها ضد أي نشاط دعوي يمكن أن يبذله المسلمون.

منقول عن : مجلة الوعي ، العدد 286 (عدد خاص بجنوب السودان)، السنة الخامسة والعشرون ، ذو القعده 1431هـ ، اكتوبر- تشرين أول 2010م



شارك على فيس بوك