فرنسافريك/ الماسونية: تأقلم وجه الإستعمار مع العولمة

طباعة

برنامج وثائقي يكشف لأول مرة كواليس علاقات فرنسا بحكام إفريقيا ثم تطورها وتأقلمها مع العولمة

فرنسافريك -Françafrique- هو إسم العلاقة التي تربط فرنسا بالمستعمرات الإفريقية منذ الخروج العسكري الفرنسي الظاهري منها إلى حدود اليوم. كذلك فرنسافريك هو إسم خلية تقيم مع الرئيس الفرنسي في قصره منذ شارل ديغول، وهي تختلف عن وزارة الخارجية، شؤونها: إفريقيا. وأنشطتها سرية كواليسية بين الإيليزي وقصور الأنظمة الإفريقية.  ويمكن تصوير ذلك بأن Françafrique كانت الرئاسة الفعلية لأفريقيا والإرادة الفرنسية فيها.

 

نفس هذا المصطلح، هو عنوان البرنامج الوثائقي الذي تم بثه على جزئين على القناة الثانية الفرنسية -France 2- لأول مرة التاسع والسادس عشر من ديسمبر 2010. وسيخرج في شكل قرص "دي في دي" في العشرين من الشهر الجاري. ويكشف البرنامج كواليس تلك العلاقة السفاحية وأسرار التغيرات السياسية في إفريقيا منذ خمسين سنة تشمل حتى الصراع الأخير والمستمر في ساحل العاج بعد انتخاب "وتارة". وذلك من خلال شهادات صانعي وصائني تلك العلاقة وصور وأفلام من الكواليس.

ويبرز الفلم أن فرنسا قد دأبت منذ ديغول على جعل خلية خاصة في قصر الإيليزي مهمتها الشؤون الإفريقية والإتصال الأسبوعي المباشر بقادة المستعمرات الإفريقية عن طريق مستشاريي تلك الخلية الذين يلعبون في الظل التام  دور همزة الوصل بين الحاكم الفعلي الفرنسي والبيادق الإفريقية في قصورها. وقد كان إسم الرئيس القادم لدولة ما، يتم إختياره في إطار الخلية نفسها. وكانت الإنقلابات العسكرية تخطط فيها وتقوم بنفسها بأساليب عملية سرية لها كل الأضواء الخضراء بتأهيل فوج من الفرق الخاصة لتنصيب البيدق الجديد. وكم رأينا من انقلابات بدون إراقة دماء! لعل أشهرها، بوكاسا، رئيس أفريقيا الوسطى الذي أعلن نفسه إمبراطوراً، فتخيرت الخلية مرشحاً لخلافته من ضمن ثلاثة أسماء، ثم ترقبت الخلية لحظة زيارته إلى ليبيا وحملت الرئيس الجديد على متن فوج طائر من الكوماندوس من باريس لتحط به فوق عرش الإمبراطور بوكاسا، رئيساً جديدة لإفريقيا الوسطى! ورأس عملها كان الحفاظ على المصالح الإقتصادية الفرنسية في مستعمراتها الإفريقية. فكانت الشركات الفرنسية في النفط والمعادن تعادل دولاً بحالها داخل إفريقيا وكانت لها مخابراتها الخاصة بها ولا يجتمع رئيسها إلا برئيس الدولة! -كم رأينا من هذه المشاهد!-. فكانت إفريقيا حضيرة محصنة خاصة لحساب فرنسا دون غيرها من الدول. لها النفط وخيرات أرض إفريقيا بلا اثمان تقريباً، إلا ما يعادل نصيب البيدق الذي وضعوه على الكرسي، حتى أن "أثرى" المستعمرات وهو الغابون قد كان مديناً لفرنسا، وكان يلح في سؤال تخفيض ديونه، إلى أن تم له ذلك اثر إنتخاب ساركوزي ودعوته بعد أيام فقط من إنتخابه لعمر بانغو إلى زيارته إلى الإيليزي فأسقط عنه 20%. ويرى مراقبون أن ذلك لم يكن مجانياً وإنما ثمناً لتبرعات بانغو وبعض القادة الأفارقة الآخرين، دعماً لحملة ساركوزي. وهو ما يشكل بوادر فضيحة جديدة لساركوزي في الأفق.

ورغم أن طبيعة الخلية وطبيعة عملها يخص المستعمرات الإفريقية بما فيها المغرب الإسلامي، والشهادات هي شهادات عامة لا تخصيص فيها، إلا أن البرنامج قد تعمد تغييب الأحداث التي تخص المغرب الإسلامي، ربما تخوفاً من انعكاسات ذلك على الوضع الهش لأنظمة منطقة قريبة جغرافياً من فرنسا وتخوفاً من تفاعله مع الوضع السياسي المحلي، وأهم من كل ذلك تفادياً للإلقاء بهدية لخصوم الأنظمة، الذين هم أنفسهم خصوم فرنسا وخصوم الإستخراب بشكل عام، وخاصة الجديين منهم.

في المقابل لم يتردد معد البرنامج في شمول حالة ساحل العاج الساخنة، فساركوزي لا يريد جباجبو ويريده الرحيل. وقد كان للبرنامج تأثير مباشر على مزيد تصلب جبهة الوطنيين الشباب التي تساند جباجبو. فقد اشترت مؤسة الإذاعة والتلفزة لساحل العاج وهي تحت سيطرة جباجبو حقوق بث البرنامج وراحت تبثه بإستمرار لتحريض العاجيين على فرنسا التي هي نفسها من نصب من قبل علي بانجو على الغابون مكان والده عمر بانجو -بعد موته- رغم خسارته في الإنتخابات. ويريد جباجبو من خلال بث هذا الفلم، الإنتفاع من دور فرنسا المؤكد في الفلم في تنصيب رئيس الغابون الجديد رغم خسارته في الإنتخابات، لتصوير وتارة بأنه إبن فرنسا وتصوير نفسه أنه مقاوم لها... وكأن جباجبو لا يدرك التحول الذي طرأ على طبيعة العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها، منذ قدوم ساركوزي الأمريكي في زمن العولمة وتكليفه الطائفة الماسونية بخلية فرنسافيرك في الإيليزي عن طلب من عمر بانجو -رئيس الغابون- قبل موته.

ولكن البرنامج يبرز كذلك أن العلاقة كانت، كما يقول البيادق أنفسهم "متبادلة". ويبدو واضحاً أنه لا يستهدف بشكل خاص إبراز السيطرة الإستعمارية التي استمرت بعد الخروج العسكري عن طريق خلية فرنسافريك ولكن لإبراز عنصر آخر من هذه العلاقة بقي خافياً إلى حد الآن ألا وهو تأثير بعض القادة الأفارقة الخفي في السياسة الفرنسية عن طريق الرشاوى، والتبرعات المالية لمرشحي الرئاسة الفرنسية. ومن هنا يحصل الربط مع الحالة السياسية الحالية لفرنسا وبالخصوص ساركوزي وفضيحة كاراتشي. ويبدو أن الأمر بالنسبة لساركوزي قد أصبح "علي وعلى أعدائي" من أجل التهوين من فعل تأثير فضيحة كاراتشي في الرأي العام. فهو يبرز تورط الرؤساء الفرنسيين الذين عايشوا ولا زالوا تلك الخلية ورعوها في فساد مالي أنتج فساداً سياسيا. من مثل تلقي الهدايا الثمينة والتبرعات المالية الكبيرة في الإنتخابات، وهي أمور منافية للقانون الفرنسي. ويرى البعض أن إبراز هذا الجزء الثاني من العلاقة كان هو "الغاية" الرئيسية من إعداد الفلم وبثه في هذا الظرف بالذات. وذلك من أجل تطبيع جريمة تركيب منظومة مالية سرية لتلقي أموال رجعية في عقود بيع غواصات لباكستان أثناء  إنتخابات الرئاسة سنة 1995 حيث كان آنذاك أمين خزانة وناطق رسمي بإسم بالادور المرشح اليميني الثاني ضد شيراك. وهو ما يطلق عليه بفضيحة كاراتشي.

أما الوجه الأهم في الفلم، ويأتي هذا في الجزء الثاني منه، فهو مستقبل فرانسافريك ومستقبل أفريقيا بما فيها المغرب الإسلامي. فبعد قدوم ساركوزي المقرب من أمريكا والداعم للعولمة بالمفهوم الأمريكي، إلى الحكم سنة 2007, أعاد، في حدود الممكن، تعديل قواعد العلاقة التي بقيت "تقليدية" بين خلية فرنسافريك في الإيليزي والقصور الإفريقية على أساس خادع جديد إسمه "المصالح المتبادلة" و"الشراكة" وهي ألفاظ من العولمة، تصم الآذان من كثرة سماعها هذه السنين الأخيرة على وسائل الإعلام الإفريقية وبالخصوص وسائل إعلام منطقة المغرب الإسلامي ومنطقتنا عموماً.

فأمام العولمة لم تعد إفريقيا حضيرة حكراً على فرنسا وإنما تجد لها منافسين وخصوما اقتصاديين شرسين على رأسهم الصين والولايات المتحدة الأمريكية. فأصبحت فرنسا تجري لاهثة للحفاظ على مصالحها من خلال دعم العلاقات المتميزة مع الأنظمة التي وضعتها من قبل، ولكن بصعوبة تامة أمام المنافسة. فلم ينجح ساركوزي في الحفاظ على إستغلال منجم اليورانيوم النيجيري إلا بصعوبة شاقة حيث إضطر إلى تضعيف الثمن أمام إصرار رئيس النيجر على ذلك تحت تهديد عرض صيني مغر له. وتسعى فرنسا كيفما استطاعت الإلتواء على أسس العولمة الأمريكية من ديمقراطية وحريات من أجل الحفاظ على بيادقها في أماكنهم. فهي لم تتردد في دعم وتنصيب إبن رئيس الغابون الغني بالنفط، على بانجو بعد مسرحية إنتخابية خسر فيها. وقد كان الغابون ورئيسه عمر بانغو من أكبر المؤثرين في السياسة الفرنسية، ويعتبر في العقد الأخير عميداً لقادة إفريقيا الذين نصبتهم فرنسا. وكان يكفيه الإشارة في أعقاب ورقة خلال اجتماعه الأسبوعي مع مثل فرانسافريك بأسماء أشخاص يريد رؤيتهم في الحكومة الفرنسية، حتى يتم ذلك في أول تحوير وزاري كما حصل في التحوير الوزاري الذي أتى برفاران زمن شيراك وخمسة أسماء كتبهم عمر بانغو في أعقاب ورقة.

ولكن "المصالح المتبادلة" و-"الشراكة" هي مباديء مفتوحة تأتي في إطار العولمة ولا يمكنها لوحدها تأمين ثروة العلاقات الفرنسية الإفريقية، فكان لا بد من إيجاد مباديء بديلة يمكن الإعتماد عليها في مجال العلاقات السرية، فكان البديل هو الماسونية، "فران ماسون"، وهي طائفة عالمية مغلقة في دوائر السياسة والأعمال ينتمي إليها أغلب رؤساء منطقتنا العربية والإسلامية مبنية على أسس علاقة يسمونها "أخوية" تحت السرية التامة تخضع لنظام هرمي ومجموعة قوانين صارمة، وهي تشبه المافيا في تنظيمها، يمكن الدخول إليها ولا يمكنه الخروج منها إلا مقتول. وإنتقلت بذلك خلية فرانسافريك إلى أيدي الماسونية العالمية التي ملأت الفراغ الحاصل في إطار العلاقات الفرنسية مع المستعمرات الإفريقية.

ويبرز الفلم أن عمر بانجو، قبل وفاته أعقاب نوفمبر 2009, كان هو الذي أشار على ساركوزي  بإسم الشخص الذي يريد أن يراه على رأس خلية فرانسافريك فلم يكن إلا ماسونياً. وكذلك يبرز الفلم حفل تعميد ممثل الطائفة الماسونية في الغابون. ولم يكن إلا علي بانجو، رئيس الغابون الجديد!

وبذلك تصبح الماسونية أحد أهم عناصر العولمة في مجال صنع القرار والسيطرة على مقدرات الشعوب وخيرات اراضيها وإحباط تطلعاتها وآمالها في التحرير من أغلال إستخراب لا ينفك في التحول والتشكل والتأقلم بحسب ما تقتضيه التطورات والظروف العالمية.

الفلم يخضع لحقوق نشر فلا يمكن الحصول عليه عن طريق الأنترنات إلى حد الآن. وسوف يكون معروضاً للبيع في صورة أقراص ديفيدي إبتداءً من العشرين من الشهر الجاري ديسمبر 2010. ولكن هناك مقاطع منه، يمكنكم مشاهدتها على هذا الرابط: http://www.dailymotion.com/playlist/x1gt12_Phares-Balises_francafrique/1#videoId=xfo101

 

مبادرة المستنير الإعلامية

 



شارك على فيس بوك