الفضائيات الإسلامية والثورات العربية!!

طباعة

حسام مقلد

كان مُلْفِتًا جدًا تأخر أغلب الفضائيات الموسومة بالفضائيات الإسلامية في تغطيتها لأحداث الثورات العربية المتتالية في كلٍّ من تونس ومصر وليبيا... وغيرها، لدرجة أن مشاهدي هذه القنوات قطعوا الأمل تماما أن يجدوا فيها متابعةً إعلاميةً رصينة لهذه الأحداث تكون آنية وتفصيلية وشاملة، وتتمتع بقدر معقول من الاحترافية الكبيرة والمهنية العالية ولو على مدى ساعتين فقط من ساعات الذروة التي ترتفع فيها كثافة مشاهدة هذه القنوات، ولا تكون مجرد خبر يأتي على استحياء في ذيل ورقة نشرة الأخبار التي يتلوها باقتضاب قارئ النشرة ويلقيها عَجِلا على مسامع مشاهديه، فلا تغنيهم ولا يجدون مفرا من الركض بالريموت كنترول خلف الفضائيات الأخرى، ولم يظهر فقط فقرُ وعجز الفضائيات الإسلامية في برامج التحليل السياسي العميق، بل انكشفت هشاشتُها وبان ضعفُها وهزالها الشديد وعدم قدرتها على مجرد التغطية السريعة الناجزة للأحداث ومتابعة مجرياتها ومواكبتها ونقلها مباشرة أولا بأول للمشاهد الملتزم في أي مكان وفي كل وقت، كما قصُرت همةُ معظم الفضائيات الإسلامية عن التعاملِ مع تلك الأحداث بوعي ونضج ومسئولية من منظور إعلامي إسلامي صحيح، وبيانِ آثارها شديدة الأهمية على مستقبل الأمة الذي يتشكل الآن، وكأن ما جرى ويجري من أحداث يقع في بقعة أخرى من العالم لا تربطنا به أية وشائج!!
حقيقة لا أدري إلى متى سيظل معظم مرافق إعلامنا الإسلامي ـ المرئي خاصة ـ خارج سياق الحدث بهذه الطريقة المؤسفة!! فرغم أننا في أمسِّ الحاجة إلى برامج إعلامية جادة وجذابة ومتميزة تساهم بدور كبير فاعل في إعادة صياغة شخصية المشاهد، وبناء عقليته، وتشكيل وعيه، والتأثير في ميوله وتوجهاته، وتمكينه من الحفاظ على هويته العربية الإسلامية من خلال تحصينه جيدا ضد موجات الغزو الفكري الغربي والإبهار الحضاري الذي يؤدي إلى الذوبان في حضارة الآخر وتبني ثقافته وقيمه وعاداته وأنماط حياته المختلفة ـ رغم كل ذلك إلا أن أغلب ما يقدمه لنا إعلامنا الإسلامي المرئي دون المستوى ويبعد كثيرا عن الحد الأدنى المطلوب، هذا ما يلمسه الكثيرون منذ سنوات، وقد تجلَّى بوضوح شديد في الآونة الأخيرة بعد وقوع الثورات العربية المتتالية، فبدلا من معايشة الحدث لحظة بلحظة، وتغطية جوانبه المختلفة اجتماعيا ودينيا وتربويا وحضاريا ومستقبليا (وليس بالضرورة سياسيا واقتصاديا) بدلا من ذلك ـ ولتوازنات كثيرة وحسابات دقيقة ومتشابكة...!! ـ وجدنا اختزال الحدث بصورة كبيرة والتعامل معه كمجرد مادة خبرية تقال حسب ترتيب دورها وسط نشرات الأخبار كأي نبأ عادي آخر، ولم يكن مطلوبا ولا منتظرا من القنوات الإسلامية القيام بتغطية سياسية مكثفة لهذه الثورات بمثل الخطاب الإعلامي المكشوف الذي تبنته الجزيرة مثلا؛ حتى لا يفسر ذلك على أنه خطاب تحريضي أو منحاز لمعسكر معين، وفي رأيي أن مثل هذا الخطاب السافر وهذا التوجُّه الساخن غير مطلوب في الفضائيات الإسلامية، لكن كان بإمكان هذه الفضائيات معالجة هذه القضية بأشكال أخرى، كأن تهتم بجوانبها الاجتماعية والتربوية والنفسية، وتسلط الضوء على العوامل والأسباب التي أدت إلى نشوب هذه الثورات، وتقوم بتحليلها والتحذير منها، وبيان كيفية علاج مختلف مشاكل المجتمعات العربية علاجا جذريا هادئا وناجعا؛ تجنبًا لحدوث احتقانات واضطرابات أخرى في بقية الدول العربية!!


ولا ريب أن الإعلام الإسلامي المرئي يعد مطلبا حيويا للأمة الإسلامية كلها؛ لاسيما في المرحلة التاريخية الحاسمة التي تمر بها الآن، وهو مجال رحب واسع وغاية في الأهمية دون شك، لكن ـ من وجهة نظري ـ واقعه الملموس حاليا ليس على ما يرام!! فهو في الغالب عبارة عن منظومة غير احترافية مشتتة الجهود، أقرب ما تكون للهواية منها للعمل الاحترافي ذي المهنية العالية، وبالتالي تفتقر أغلب الفضائيات الإسلامية إلى الجاذبية والإبهار الموضوعي اللذين تتمتع بهما الفضائيات الأخرى، وأعتقد أن من أبرز سلبيات الإعلام الإسلامي المرئي الموجود على الساحة حاليا ما يلي:


1.  يكبل نفسه بقيود كثيرة بعضها غير مبرَّر على الإطلاق لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية الإعلامية والفنية، والنتيجة إهدار الكثير من الجهد والطاقة في لزوم ما لا يلزم!!

2. الاهتمام كثيرا جدا بثقافة الشكل والإبهار الشكلي ولو على حساب المضمون والجوهر (وهذا على عكس المتوقع منه والمفترض فيه...!!).

3. الجمود وبطء الحركة، وللأسف الشديد هناك غُلالاتٌ كثيفة ومخاوفُ وأوهام شتى تكبِّله، وتحجب عنه النضجَ وتمنعه من التطور الحقيقي، وتعيق انطلاقه بصورة جادة ومؤثرة!!

4. يحاول دائما الوصول إلى توازنات دقيقة لا يجيد تحديدها أصلا، و في الغالب لا يمتلك أدوات تحقيقها...!!

5. يعاني من غياب الرؤية الإستراتيجية بعيدة المدى، وفقدان البوصلة العملية الصحيحة؛ لأنه لا يمتلك أية رؤى عملية بمنهجية واضحة، وليس لديه استراتيجيات محددة، ويسير ـ في الغالب ـ هكذا كيفما اتفق على قاعدة "إنجاز ما يمكن إنجازه!!" وليس لديه غالبا سوى الأماني الحلوة والأحلام البهيجة والأفكار العامة والكلام المرسل!!

6. يعتمد في الغالب فقط على حسن النوايا ونبل الهدف وسلامة المقصد والغاية، وكل هذا مهم دون أدنى شك، لكن لا ينبغي الاكتفاء بهذا فقط وإهمال الأخذ بالأسباب، والاعتماد على الكفاءة والتخطيط العلمي السليم.

7. في كثير من الأحيان يُقَدَّمُ أهل الثقة على أهل الخبرة، كما أن سبل التطوير العملي الحقيقي شبه منعدمة أو على الأقل غير واضحة لدى القائمين على أمر أغلب قنوات الإعلام الإسلامي المرئي، ولا أبالغ إن قلت إن التطوير الوظيفي ومحاولة الارتقاء بمستوى الكوادر البشرية العاملة في هذا الحقل ورفع كفاءتها أمور غير واردة بتاتا (توفيرا للنفقات...!!) بل حتى مجرد فكرة التقدم بمقترحات للتطوير تحتاج إلى منظومة علاقات عامة قوية بغض النظر عن الخبرة والكفاءة!!

8. وجود نزف حاد ومستمر في الطاقات والكوادر البشرية بسبب سوء التخطيط وخفوت هالة الإعلام الإسلامي البراقة التي صاحبت انطلاقته الأولى!!

9. في تصوري أن عددا غير قليل من أصحاب (أقصد مالكي) أغلب القنوات الفضائية الإسلامية يهمه بالدرجة الأولى استمرار سفينة هذه القنوات في الإبحار والحركة والتواجد على الساحة إما ظنا منهم أن مجرد وجودها هو هدف في حد ذاته، وأن هذا التواجد يسد ثغرة كبيرة يؤجر صاحبها إن أخلص واحتسب، أو ربما للحصول على بعض المكاسب المادية ودر الأرباح المادية، أو لتحقيق أهداف أخرى من قبيل التفاخر الاجتماعي ونيل مكانة أدبية معينة بين الناس...، ومن خلال تحليل مضمون ما أراه أتخيل أن أغلب هؤلاء لا يعبؤون كثيرا بنضج المحتوى الذي تقدمه قنواتهم، ولا يفكرون طويلا في شمول وتوازن ووسطية وسلامة مواصفات النموذج الحضاري والمضمون الثقافي والإطار الفكري الذي تطرحه هذه القنوات، ولا يهمهم الوجهة النهائية التي ستصل إليها، ولا يعنيهم كثيرا تطوير حركتها أو تحسين أدائها، المهم أن تظل السفينة مبحرة، ولا يهم أي شيء آخر حتى لو كانت محصلة سعي السفينة ضئيلة وضحلة، أو حتى أنها تسعى في لا شيء، المهم أن تظل في البحر أمام أعين الناس!!!


إن أخشى ما أخشاه أن تصبح أغلب القنوات الفضائية الإسلامية إن استمرت على منهجيتها الحالية مجرد جزء من منظومة ضخمة، أو ترس في آلة عملاقة تسهم ـ بشكل أو بآخر دون قصد... ـ في تغييب الوعي الحقيقي، وتخدير العقل وصرف اهتماماته نحو قضايا فرعية واهتمامات بسيطة، وتؤدي بشكل ناعم جميل تحت تأثير عبارة براقة هي عبارة (الإعلام الإسلامي) إلى تسطيح الشخصية؛ لأن هذه القنوات في الحقيقة أثبتت حتى الآن أنها لم تنضج كثيرا بعد، وربما لا تفكر جديا في اجتياز مرحلة الطفولة التي تعشقها وتعشق البقاء فيها، ولا يبدو أنها تريد أن تبرحها أو تنتقل منها؛ حتى لا تتحمل أية مسؤوليات جادة تُلْقَى على عاتقها!!

وقطعا لا أحد يريد أن يكون الإعلام الإسلامي إعلاما تصادميا يصنع المشاكل أو يجلب العداوات لنفسه؛ فيعيق عمله أو يؤثر على انطلاقه وحركته، بل المطلوب أن يتحرر هذا الإعلام الإسلامي من خوفه المَرَضِي الذي تحوَّل في معظم الأحيان إلى فوبيا حقيقية أعاقت تطوره وحرمته من تقديم جرعات صحية مضبوطة ومتوازنة من الإعلام الإسلامي الحقيقي الوسطي المعتدل الناضج الذي تحتاجه أمتنا اليوم بشدة؛ لتتمكن من مواجهة إعلام الآخر وغزوه الفكري الكاسح، وحتى تستطيع إعادة بناء وصياغة شخصية الإنسان العربي المسلم، وتشكيل ميوله وتوجهاته على أسس إسلامية سليمة تحفظ له هويته، وتجعله في نفس الوقت ابن عصره وقادرا على امتلاك كل أدواته
"إِنْ أُرِيدُ إِلا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [هود : 88].

المصدر: المصريون



شارك على فيس بوك